لماذا قرأت الكتاب؟:
كان من الصعب بمكان البدء في نقد الكتاب عقب انتهائي من قراءته في الصيف الماضي والسبب في ذلك هو أنني اقتنيت الكتاب لسبب أكاديمي بحت حيث كنت أبحث عن كتاب عربي يتحدث عن الانتقال من المنظومة إلى الشبكة وتفاجأت بوجود هذا الكتاب متطابقا والعنوان الذي رسمته في ذهني وظننت أنه يتحدث تماما عما كنت أبحث عنه.
والحق يقال أنني أصبت بخيبة أمل بليغة حينما بدأت في تصفح الكتاب وقراءة مقتطفات منه كعادتي قبل الشروع في القراءة المضنية. ومنبع خيبة الأمل كان في محتوى الكتاب أولا وطريقة عرضه ثانيا. ولهذا قررت أن أكتب رأيي في الكتاب بعد مرور برهة من الزمن (أصبحت عدة أشهر) يكون العامل النفسي السلبي قد غادرني فأكتب مراجعة أمينة بقدر المستطاع لهذا الكتاب.
مؤلف الكتاب هو المفكر اللبناني علي حرب وهو مفكر علماني له العديد من المؤلفات في مجال الفلسفة ومتأثر جدا بفلسفة “كانط” التي تقوم على نقد العقل الخالص. ومن المهم بالطبع أن يلم القارئ بالخلفية الفلسفية للكاتب وذلك كي تتسق عملية القراءة الناقدة مع اتجاهات الكاتب الفكرية. وهذا يفسر كثيرا من النقاط الواردة في كتابه قد تُشكل على أي قارئ لا يعرف من هو الكاتب.
الكتاب هو عبارة عن مقالات للكاتب خلال عامي 2010 و2011 يتحدث فيها عن الثورات العربية. يتحدث عن إرهاصاتها ومآلاتها وأبطالها والنماذج الفكرية التي أنتجت تلك الثورات ونقدها. وقد تم تجميع هذه المقالات في كتاب واحد وهذا ما أثار احباطي. وللدقة منبع الإحباط ليست طبيعة الكتاب كمقالات، لكن المشكلة كانت في تباين أفكار المقالات مما جعلني أفقد بعض التركيز. وللعلم فإن أفضل الكتب البحثية تلك التي تكون على هيئة مقالات لكنها تكون مقالات لكتاب مختلفين فتتهيأ نفسيا لأن تكون الأفكار متباينة. عموما، يتناول الكتاب في طرحه الثورة المصرية والثورة الليبية على اعتبار أنهما ثورتان تتفقان في الأسباب وتختلفان في الأدوات والنتائج، ومع الأسف يتجاهل في معظم صفحات الكتاب الثورات التونسية واليمنية والسورية.
ما أعجبني في الكتاب:
قام الكاتب بتأصيل الثورات العربية كثورات خرجت لكسر الأصنام الفكرية وليس فقط للاحتجاج ضد الفقر والتهميش. وهذا في رأيي وجهة نظر صحيحة. فقد كانت الثورة تحمل أهدافا ظاهرية (العيش والكرامة) وتحل في طياتها رفض الصورة النمطية للحاكم الواحد الفاسد. وقد وفق الكاتب في سرد الكثير من الشواهد على صحة فرضيته النظرية. فإن تحسين ظروف العيش وإعادة الاعتبار إلى المواطن لا تأتي إلا عبر التخلص من الأصنام التي هي سبب تلك الكوارث التي يعيشها العالم العربي. والتخلص ليس شرطا أن يكون عبر التغيير الفيزيقي للحاكم بل يمكن أن عبر التغيير السياسي أو الأيديولوجي ويكون ذلك بالمراجعة الفكرية والعودة إلى النظم الرشيدة للحكم في الدولة وهذا ما لم يحدث في الثورات العربية وكثير من الثورات في العالم. فقط ارتبطت الأيديولوجية الفاسدة ارتباطًا كيانيًا (انطولوجيًا) بالكينونة الفيزيقية للحاكم مما تحتم التخلص منه برمته وهذا ما حدث في مصر وتونس وليبيا واليمن.
قام الكاتب بتشريح الثورات العربية تشريحا كيانيًا (انطولوجيا) ومعرفيًا (ابستمولوجيا) حيث تصدر للحديث عن الثورات العربية بمكوناتها الثقافية والسياسية والاجتماعية والنفسية وعقدية. وقد خصص لكل محور تقريبا عدة مقالات يشرح فيها كل مكون على حدة مما يجعل القارئ يقرأ الثورة من عدة أوجه. وبهذا يدعم الكاتب نظريته حول جوهر الثورات الحقيقي وهو التغيير الشامل وليس العيش والفقر.
أبرز الكاتب دور المجتمعات الرقمية وبالغ في الثناء عليها وعلى دورها السياقي في الحشد للثورة ونقلها من مرحلة الفكر إلى العمل. وهو ينظر إلى المجتمع الرقمي ليس كأداة للثورة فقط بل كعامل فاعل وجزء كيانيًّ من الثورة وهذا ما يميز الثورات العربية المعاصرة عن الثورات السابقة.
وجه الكاتب نقدا حادا للنخب الثقافية التي اكتفت بالتنظير دون أي فعل حقيقي على عكس ما كانت عليه النخب الثقافية في العقود السابقة والتي كانت هي التي تقود الثورات. يهاجم الكاتب المثقفين ويرى أنهم لم يقوموا بدورهم فحسب بل ساهموا في إطالة عمر الظلم بسبب تقاعسهم واكتفائهم بشعارات يغلب عليها التشبث بأنظمة حكم شمولية غابرة تظن أنه يمكن أن تكون نموذجا للتغيير. هذا ربما ينطبق كثيرا على الطبقة المثقفة التي ترى في النموذج الناصري هو الحل في الوقت الذي اتسم عصر عبد الناصر بالدكتاتورية القمعية والشعارات الشوفينية ولم يقدم شيئا حقيقيا في نهضة مصر.
لغة الكتاب قوية ومحكمة والأفكار انسيابية وتعبر عن عمق فكر الكاتب ومدى تجربته الفلسفية في الحشد والنقد الفلسفي. ويلزم الكتاب أكثر من قراءة كي يتمكن المرء من الوقوف على فوائده.
في خلاصة ما أعجبني:
فإن هناك نقاطا كثيرا أعجبتني وأكثرها كانت مقولته الجدلية في وصف الثورات العربية وما أحدثته من إعادة تشكيل السبب والمسبب “أن ما كنا نظنه سببا يغدو نتيجة وبالعكس” وهذه جملة هامة توضح الإرباك الحاصل في الساحة العربية حينما لم يفهم الحاكم سبب ثورة الشعب. اعتقد الحاكم أن إغراق الشعب في دوامة الحياة الطاحنة سعيا للرزق وتجفيف موارد البلاد كي يصبح هم المواطن أن يجد لقمة يسد بها رمقه، سيكون سببا في استقرار الحكم لصالحه. وقد حصل هذا لسنين طويلة بالفعل إلا أن هذه النتيجة أضحت سببا بدورها لثورة الشعب ضد الحاكم.
ما لم يعجبني:
بشكل عام الكتاب جيد إلى أن يبدأ في الحديث عن الإسلام. وهذه مشكلة معظم العلمانيين العرب. حينما يبدأ الحديث عن الإسلام يختفي علماني “المظهر” ويظهر علماني “الجوهر”، فتجد الكلام قاسيا دائما ومتحاملا متصيدا كلِّ خطأ ومكبرا كلِّ هفوة.
وقد أفقد تحامل الكاتب الشديد ضد الإسلاميين دقة الكتاب في الحديث عن الثورة حين وصل الكاتب إلى حد وصف الإسلاميين والإسلام بعبارات تصل إلى حد الإسفاف في بعض الأحيان مثل وصفهم بالرعاع ويصف الدين بشكل عام بأنه في أصله “سلطة لا تقل عنفا وإرهابا عن سلطة الدولة”. ولا أدري لماذا يصاب مثل هؤلاء المفكرين العلمانيين بنوبة هياج حينما يبدؤون في مناقشة الإسلام وظاهرة الإسلام السياسي! لماذا لا يناقشون بكل هدوء مثلما يناقشون الموضوعات الأخرى؟ لذلك فهذه النقطة تصيب الكتاب في مقتل بسبب جملة من النعوت الرديئة ضد الإسلاميين وأحيانا ضد الأنظمة الحاكمة تقع داخل كتاب يفترض أنه يقدم وصفا تحليليا للثورة ويؤكد في غير موضع أهمية الثورة على التخلف وثقافة الإلغاء والشتم والتخوين فإذا به يقع في ذات الثُلْمة.
يتحيز الكاتب بشدة إلى الغرب ويصف الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي بأنه “أيقظنا من سباتنا” ونسي الكاتب أن الاستعمار كان سببا رئيسيا في تخلف العالمين الإسلامي والعربي. ويرجع الكاتب الفضل في الهامش الديموقراطي الذي عاشت فيه لبنان في فترة من عمرها إلى الاستعمار الفرنسي. وأنا أرى أن هذه مقولة فرضية مرجوحة كون أن معظم العالم العربي وقع تحت نير الاستعمار الغربي فلماذا لم “ينعم” ب”ديمقراطية المستعمر” مثل لبنان؟ ومثال آخر وهو تمسك الكاتب بالديموقراطية الغربية كنموذجٍ للحكم الرشيد ومجادلته بأن النموذج الديمقراطي الغربي هو السبب في بناء اقتصاد قوي حر في الغرب، وأن العرب لن يصبح لديهم اقتصادا حرا إلا بتبنيهم النموذج الغربي. والحقيقة أن في هذا غبن شديد. مع رغبتي الشديدة في وصول عالمنا العربي إلى حكم رشيد إلا أنه من الظلم بمكان، جعل النموذج الغربي مرادفا وحيدا للحكم الرشيد. فالصين مثلا ليست دولة ديموقراطية إلا أن اقتصادها يتسارع نموه بمعدلات غير مسبوقة وأصبحت عملاقا اقتصاديا باعتراف الجميع. اليابان أيضا تحكمها تقاليد شرقية صارمة تختلف كثيرا عن المفهوم الأمريكي للحرية. فنزويلا تبني اقتصادا عالميا مع تشدد زعيمها الثوري الراحل تشافيز. وهناك الكثير من النماذج الناجحة في مجال الاقتصاد والحكم الرشيد والتي تختلف اختلافا كليا مع النموذج الغربي.
لكن هذا كله يمكن فهمه في سياق الخلفية الفكرية للكاتب في إطار تبنيه لفلسفة كانط في نقد العقل والفلسفة الفردانية في نقد المجتمع وإبراز دور الفرد على الجمع. كما أن دفاعه المستميت عن الفكر العلماني أفقده في كثير من المواضع الالتزام بالصرامة الأدبية ومحددات البحث الاجتماعية الرصينة في الجدال. فمثلا يجادل بأن أنظمة الحكم الإسلامي عقب فترة الخلافة الراشدة كانت أنظمة علمانية لأن مسمياتها كانت مرتبطة بالعرق أو النسب مثل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية إلخ. ويرى أن هذا دليل على فصل الدين عن الدولة. والحقيقة أنني منذ قرأت هذه الجدلية قبل عدة أشهر وأنا أحاول كيف يمكن ربط هذا بذاك! فقد قدم الكاتب أضعف دليل على جدليته مما يحولها إلى رأي شخصي منا إلى جدلية علمية.
في خلاصة ما لم يعجبني:
ميل الكاتب الشديد للقيم الغربية بدون أي تنقيح ولا انتقاء بما يناسب المجتمع ونقده الشديد للقيم الإسلامية مثل الحاكمية والولاية والتوريث إلخ.
لقد تجاوزت عن الكثير من النقاط الجيدة والنقاط السيئة في الكتاب واكتفيت بما ذكرت كي لا أطيل.
أخيرا أتمنى أن تقرؤوا الكتاب وأرى رأيكم فيه
وحتى نلتقي،،،
ملاحظة هامة: إذا شعرت أن هذه المقالة مفيدة، فتذكر أن الذي كتبها بذل جهدا كبيرا في كتابتها. يمكنك أن تشكره بأن تعيد نشر المقالة عبر صفحتك في فيسبوك أو تويتر كي يستفيد غيرك كما استفدت أنت. شكرا لكم 🙂
هذه المقالة تمت قراءتها 2691 مرة ______________ لا تنسى بعد قراءتك للمقال أن تقوم بتقييمه بواسطة النجوم لو سمحت 🙂
حياك الله يا باشمهندس مهيب ونراكم على خير على ارض الوطن
مشاء الله عليك استاذ مهيب رائع في كتاباتك لماذا لا نرى كتاب من تأليفك ؟