الناس لا تترك أحدا في حاله. ولو لم يجدوا فيك عيبا لاتهموك بأنك خالٍ من العيوب على اعتبار أن ذلك “تهمة”! لا أدرى من قال هذه العبارة لكنه بالتأكيد شخص مبدع إذ قال: “علماء الأحفوريات ينبشون عظام الديناصورات بعد موتها بحوالي 60 مليون سنة، وتريد من الناس أن يتركوك وشأنك؟!”
في مرحلة المدرسة يبدأ الإنسان في رؤية الدنيا وتتشكل لديه تلك العدسة التي من خلالها ينظر إلى العالم. في هذه المرحلة بالتحديد يقلد الطالبُ الآخرين ويتعلم منهم ويتحزب مع زيد ضد عمرو. وهكذا يبدأ في خوض أولى معارك حياته التي من المفترض أنها ستشكل الأساس الذي تبنى عليه بقية مواقفه طوال تلك الحياة. لذلك هي أخطر المراحل العمرية.
حينما يصل الشاب إلى الجامعة، إن قرر الالتحاق بالجامعة، وقد صار جاهزا للصفعة الأخيرة التي ستحدد اتجاهاته، وأسميتها بالصفعة لأن المدرسة مرحلة طويلة أما الجامعة فمرحلة القصيرة أشبه بالصفعة التي يتلقاها الطفل على قفاه حين الولادة بعد تسعة أشهر وهو يأكل ويشرب دون أدنى جهد!
ما أردت الحديث عنه هو أن الطالب يتعلم كيف يصبح “حشريا” في المدرسة إضافة إلى البيت والشارع بالطبع. فالطالب يجب أن يعرف درجات زملائه ليطمئن إلى أنه ليس الراسب الوحيد إن كان راسبا، أو ليطمئن إلى أنه لم يسبقه أحد إن كان من الأوائل. والبنت تسأل عن تفاصيل حياة زميلتها وكل ما من شأنه أن يطفئ لهيب فضولها. وتشتعل المعارك الجوالية بين الزملاء والزميلات، ووو. ألم يقولوا إن الفضول قتل القطة؟
كان في الجامعة طالبا يلقب ب”لَبَطّو”. الرجاء تشديد الطاء لكي يكون النطق صحيحا. أول يوم دخلت فيه كافتيريا الجامعة (لم أكن من مرتاديها الدوريين) قيل لي إن هذا الشاب اسمه “لبطّو” ولما انفجرت ضحكا على وقع الاسم سألتهم عن السبب، قيل لي إنه “لَبَط”. وكلمة “لَبَط” مصطلح فلسطيني مبدع لكنه مريع، وهي تعني شخصا فضوليا يدس أنفه في شؤون الآخرين دون أن يدري. لو كان يدري الشخص يصبح فضوليا أو “كثير غلبة” لكن كون أنه لا يشعر بفضوله، فهذا يحيله إلى المرتبة العليا من الرخويات.. مرحلة اللباطة. وأصل الكلمة فصيح، إذ أن الفعل “لَبَطَ” تيني الالتصاق بالأرض، بينما لبّط (بتشديد الباء) تعني التمرغ وشدة الالتصاق بالأرض. أما عن دلالتها فهي تقال لمن يلتصق وبتمرغ عند شؤونك ولا يبرحك إلى أن يعرف كل شيء عنك.
شاهدت موقفا مباشرا وحيّا لأحد مواقف “لَبَطّو” (ليغفر لي الله، فلا أعرف اسمه الحقيقي). كان الموقف عبارة عن لباطة خام، مثل الهيدروجين المسال. بينما كان لبطو يمشي بين طاولات الكافتيريا، فجأة يلمح جوالا جديدا يلمع فوق الطاولة (لاحظوا أنني أتحدث عن العام 2000 في طفرة نوكيا وسامسونغ)، وكان الجوال يعود لأحد الطلبة الأتراك. توقف لبطّو أمام الشاب وأمسك الجوال بدون أن يستأذن وقلبه بين يديه ثم تركه ومشى! هكذا بدون مقدمات. لا أدري إن كان الطالب يعرف لباطته لكنه لم يتحرك ساكنا، وأحسب أن الموقف قد شلّه لمدة ما ولله أعلم. إن كان لبطو لا يشعر أن ما يفعله يخلو من اللياقة فهذا مستوى متقدم جدا في اللباطة! لم أر شابا مثله.
وكثيرا ما يصبح التدخل في شؤون الآخرين مؤلما. فتجد كثيرا منا (نحن أنانيون أحيانا) ما أن يرى شخصا مأزوما أو مهموما حتى نسارع إلى الاستفسار عن ذلك، وما أن نعرف حتى نذهب وكأن شيئا لم يحدث! وقد كنت أفعل ذلك (ليغفر الله لي) إلى أن تنبهت إلى نقطة هامة. بتّ إذا ما رأيت شخصا مهموما، ويمكنني فعلا مساعدته أسأله عن سبب همه. وقد أسأل رغبة مني في معرفة مشكلته والعمل على مساعدته في حلها. أما إن كنت لا أقدر على المساعدة أو لا وقت لدي فلا أسأل عن سبب ألمه. أنا أستغرب كيف يمكن للفضوليين أن تتحمل عقولهم كل هذا الكم من القصص المؤلمة ولا يصابوا باكتئاب قادر على تسميم المخلوقات البحرية في البحر المتوسط!
التدخل الفضولي لحل المشكلات غالبا لا يحلها، بل يضيف أطرافا جدد إلى المشكلة لا غير. لذلك أنصح نفسي أولا ثم إياكم ثانيا أن لا نتدخل في شؤون الآخرين إلا لو كانت لدينا نية في المساعدة، وليس رغبة في التسلي بسماع قصة جديدة. أذكر أنني شاهدت “طوشة” أي مشادة عنيفة في أحد شوارع نيقوسيا في عام 2001، وكانت المشادة بين طالب فلسطيني وبين مجموعة من القبارصة وكان أحد أساتذتي القبارصة في الجامعة موجودا بالصدفة فقال لي: اذهب من هنا حتى لا تكون طرفا وأنا سأسرع إلى البيت لأقص على زوجتي قصة مثيرة هذه الليلة! تركته وأنا أفكر فيه وهو يقص على زوجته قصة مشوقة عن مشادة عنيفة.. لله في خلقه شؤون
وحتى نلتقي،،،
ملاحظة هامة: إذا شعرت أن هذه المقالة مفيدة، فتذكر أن الذي كتبها بذل جهدا كبيرا في كتابتها. يمكنك أن تشكره بأن تعيد نشر المقالة عبر صفحتك في فيسبوك أو تويتر كي يستفيد غيرك كما استفدت أنت. شكرا لكم 🙂
هذه المقالة تمت قراءتها 1244 مرة ______________ لا تنسى بعد قراءتك للمقال أن تقوم بتقييمه بواسطة النجوم لو سمحت 🙂