هل سمعت عن هذا المصطلح أو المشكلة إن صح التعبير؟ “الانحياز التفاؤلي”؟ سأقص لك القصة الآن بإذن الله.
لم أكن أدر أنني أعاني من تلك المشكلة إلى أن قابلت أحد زملاء دراسة الدكتوراه قبل أعوام والذي تحول إلى صديق أثناء الدراسة وما زال. كان بحثه مرتكز على فلسفة “القصدية” وكيف أن القصدية تؤثر في التخطيط للمشاريع الإنشائية. وكانت خلاصة بحثه أن ثمة عدد من مديري المشاريع يعكفون على تأخير المشروع بقصد خفي لا يدركونه هم ذاتيا لأسباب عدة منها الانحباز التفاؤلي. ولما كنا نتناقش كثيرا في موضوع الدكتوراه الخاص بكل واحد منا، سألته عن الانحياز التفاؤلي وأجابني. بعد ذلك كلما وقعت في ورطة تحشرني مع مواعيد كثيرة أتأخر عن إنجاز بعض منها، أتذكر شرحه للانحياز التفاؤلي.
الانحياز التفاؤلي هو نزعة نفسية عند الإنسان تجعله يرى المستقبل بتفاؤل مفرط يؤدي إلى تقدير شديد التفاؤل لميقات الأنشطة التي ينوي القيام بها. بعبارة أخرى، هو أن ترى الدنيا بمنظار وردي على الدوام.
تركبين السيارة لزيارة صديقتك، تتصل بك تسألك أين أنت؟ تردين عليها: دقيقتين وأصلك. تنهين المكالمة مبتسمة لأنك أسديت لها خدمة رائعة…ألم تهدئي من روعها وهي التي تنتظرك على أحر من الجمر؟ تمر خمس..كلا بل عشر دقائق، تتصل بك صديقتك مجددا: أين أنت يا ك………؟ تردين بتوتر: دقيقة، لا تغضبي أرجوك….تصلين بعد خمس دقائق.
هل حدث هذا معك؟
سيناريو آخر.
الأب يتصل بابنه: ابني الحبيب، أين أنت؟ نحن ننتظرك على الغداء بعد نصف ساعة.
الابن: في الطريق يا أبي، أعتقد أنه يلزمني عشر دقائق. أنت تعرف هذا الطريق. ينهي الابن المكالمة (رغم خطورة المكالمات أثناء القيادة. تعتبر جنحة يعاقب عليها القانون في بريطانيا) الزحام يبدأ، السيارات كأنها تخرج من باطن الأرض. عقرب الدقائق يلتهم مينا الساعة كأسد جائع يلتهم غزالة شهية. يتصبب عرق الابن…الأب يتصل مجددا: أين أنت يا محترم؟ ألم تقل لي عشر دقائق؟ ها قد مرت نصف ساعة… آسف يا أبي، الزحام…السيارات… ذلك الأخرق الذي يعطل سير الطريق من تلك الجهة ووو… المهم أنك تصل بعد ساعة لتجد أباك ممسكا بهراوة غليظة والشرار يقدح في عينيه. دعك من التفاصيل الصحية اللاحقة…
هل حدث معك هذا؟
يحدث مع كثير من الناس أن يبنوا تصوراتهم لتقدير الوقت بناءً على تفاؤلٍ مفرط واعتقادٍ أن الحياة خالية من المنغصات تماما. ولهذا تجدهم يقدرون الوقت بناءً على أسرع تقدير لا على أعقل تقدير أو أفضله أو أسوأه. بالمناسبة هذا نوع من التفكير، لا يصل إلى حد المرض لكنه تصور يضع صاحبه أو صاحبته في مشكلات لا تكاد تنتهي تتعلق بتقدير الوقت.
وإن كنت تظن أن هذا الأمر عاديا، فأشرح لك وأبين لك فداحته في بعض الحالات. التصور المفرط في التفاؤل للوقت يجعل عقلك يقدر المُدَدَ الزمنية لأنشطة حياتك تقديرا خاطئا! المهمة التي تُنجز في نصف ساعة، يتصورها عقلك أنها تنجز في عشر دقائق. تخيل لو أنك هممت بالتخطيط ليوم مفتوح مع العائلة، أو التخطيط لمشروع بسيط، وقدرت الوقت فيه بطريقة خاطئة تتسم بتفاؤل شديد، ما الذي سيحدث؟ بالتأكيد لن تتمكن من إنجاز كل شيء، وربما تتسرع في بعض المهام فتسبب كوارث. لطالما رأيت من يعدو أو يسرع بسيارته إلى العمل أو المسجد أو أي شيء. لابد أن بعضا منهم قدر الوقت تقديرا متفائلا فوجد أنه تأخر فأسرع حاملا معه خطر الاصطدام بأحد ما.
أنا اكتشفت أن عندي انحياز تفاؤلي لا يستهان به! أدركت ذلك أثناء العمل. حينما كنت أدرس الدكتوراه كنت أحمل تلك ال”أعراض” بالطبع لكني لم أدرك ذلك إلا متأخرا. ولعل السبب أنني في الدكتوراه كنت ملك وقتي، أخطط لوقتي كما يحلو لي وأفشل في إنجاز كثير من مهماته. كنت أعض أصابع الندم على وقت ضاع مني أو مهمة تأخرت في إنجازها. وكانت تنتابني نوبات ندم تعتصر قلبي وتجعل من يومي سيئٌ طالعه.
مع مرور الأيام اكتشفت أن أحد أسباب توتري المستمر مع الوقت هو عدم التخطيط، وعدم التخطيط الجيد، والانحياز التفاؤلي، وقبولي لأي مهمة أتحمس لها. بدأت في تغيير عاداتي، نجحت في بعض منها وفشلت في أُخَر، لكنها معركة مستمرة مع الذات.. أو مع العادات السيئة إن شئت 🙂
المهم أنني كلما اجتزت عقبة من عقبات التخطيط الجيد لوقتي، كنت أشعر بتوتري يقل، وأتحول إلى إنسان أكثر استقرارا ومصالحة مع نفسه. بقيت عندي مشكلة الانحياز التفاؤلي. “شخّصتُ” وجودها عندي قبل عام تقريبا، وحاليا أنافحها بدعم من مديري الحالي في العمل. مديري في العمل لم يعلم بوجود شيء اسمه الانحياز التفاؤلي حتى أخبرته عنه قبل أسبوع في دورة إدارة الوقت. رأى المدير أن يلتحق كل فريق العمل بدورة إدارة وقت من ثلاث ساعات لتجديد نشاطنا ولتعلم طريقة هنا أو هناك تساعدنا. في الدورة قلت أنني أعاني من الانحياز التفاؤلي والذي اتضح أن لا أحد في فريقنا ولا المدربتان يعرف ماذا يعني. شرحت لهم الفكرة. سألني المدير عن المعنى فشرحت للجميع الذين لم يصدقوا أن شيئا كهذا موجود. وتذكرت نصيحة قالها المدير لي: إذا قدرت وقت أي مهمة أطالبك أن تفعلها، فقدّر لها وقتا ثم ضاعف ذلك الوقت. إن كانت المهمة تعتقد أنها تتطلب ساعتين، قل لي إنها تتطلب أربع. وإن كانت تتطلب يوما، قل لي إنها يومان! أنت بذلك تكسب وقتا إضافيا قد يكون هو مع الوقت الذي قدرته هو الوقت الفعلي اللازم لإنجاز المهمة. وربما إن أنجزته قبل الموعد المحدد يتبقى لديك وقت أضافي للاسترخاء. ولا تنسَ أنك إن أنجزت المهمة قبل الوقت المحدد فإن هذه نقطة تحتسب لك، إما إن تأخرت فهي ضدك. لذلك من الأسلم دوما أن تطيل المدة التي تتوقعها كي لا تقع في مشكلات.
كنت ليلة أمس مسئولا عن فعالية اسمها European Researcher’s Nights والتي نسعى من خلالها إلى الاندماج مع المجتمع المحلي وتبسيط فكرة البحث العلمي للأطفال والشباب من أجل جعل العلم والمعرفة يبدوان صديقين للإنسان 🙂 كنت مسئولا عن لعبة عقلية لدراسة الانحياز التفاؤلي عند الناس. وكان الأطفال والشباب والكبار فرحون باللعبة وكنت أشرح لهم الهدف وأوضح لهم بالأرقام كيف أنهم كانوا متفائلين جدا في توقعاتهم. وكان المدير يقوم بعدها وينصح الأطفال أن يضاعفوا من تقديرهم للوقت اللازم لأي مهمة يطلبها منهم والدوهم. قال لهم: إذا طلبت منك أمك أن ترتب غرفتك، وكنت تعتقد أنه يلزمك نصف ساعة لفعل ذلك، فقل لها إنك ستنجز الأمر في ساعة، فإن أنجزته في أقل من ذلك ستحوز على رضا والديك. قال لهم: هذه طريقة رائعة لإدارة علاقتك مع والديك 🙂
الانحياز التفاؤلي يسبب لك مشكلات وضغط وتوتر. تذكر أنه لو كان عندك ثلاث مهام في يوم، وقدرت الوقت لكل منها عبر منظورك الوردي فقد تقع في مشكلات كبيرة أو كثيرة. أبسطها أنك لو تجاوزت الوقت المحدد لأول مهمة، فإنك ستتأخر على الثانية وعلى الثالثة وستشعر بتوتر وأنت تحاول إنجاز كل منها وستشعر بندم بعد ذلك إن أخفقت.
الانحياز التفاؤلي يدفعك إلى تأجيل المهام (التسويف) إلى اللحظة الأخيرة. تجلس منشكحا على الأريكة تشاهد شيئا على التلفاز أو تلهو بجوالك، تنظر إلى الوقت، باقي عشر دقائق على موعد الصلاة في المسجد. ما زال عندي خمس دقائق. تنهض بعد خمس دقائق… اوه نسيت أني لست على وضوء، تركض إلى الحمام..أخي في الداخل. اخرج أيها الوغد… الصلاة.. الصلاة… يخرج وهو يدعو عليك.. تدخل مسرعا.. تتوضأ، تخرج تبحث عن حذائك.. أين جواربي.. المعطف نسيته في الطابق الثاني.. تعود مهرولا إلى غرفتك في الطابق الثاني..تمتشق حذاءك، فجأة تقام الصلاة.. انتظر… لا ينتظرك طبعا …تجري بسرعة.. تنضم إلى الراكعين بسرعة البرق وصوت لهاثك يصم الآذان! من الطبيعي أن تفقد الخشوع بعدها.
كان يأتي متأخرا كل يوم إلى العمل، وكل مشكلته أن يقدر الوقت المفرط في التفاؤل للمشوار اليومي. يعتقد أن الطريق لا يمتطيها سواه وأنه لا إشارات ضوئية وأن الطريق مستقيم!
أخيرا: ابدأ من الآن وتخلص من هذا الانحياز التفاؤلي وجرب نصيحة مديري (الوقت المطلوب للمهمة = الوقت المقدر × 2)
وحتى نلتقي،،،
ملاحظة هامة: إذا شعرت أن هذه المقالة مفيدة، فتذكر أن الذي كتبها بذل جهدا كبيرا في كتابتها. يمكنك أن تشكره بأن تعيد نشر المقالة عبر صفحتك في فيسبوك أو تويتر كي يستفيد غيرك كما استفدت أنت. شكرا لكم 🙂
هذه المقالة تمت قراءتها 4864 مرة ______________ لا تنسى بعد قراءتك للمقال أن تقوم بتقييمه بواسطة النجوم لو سمحت 🙂