اليوم أنهيت قراءة هذا الكتاب الرائع (اتجاهات نظرية في علم الاجتماع للدكتور عبد الباسط عبد المعطي). هذه أول مرة أخوض في كتب علم الاجتماع باللغة العربية. والحق يقال أن صعوبتها اقتربت من قراءتها باللغة الإنجليزية وقد كنت أعتقد العكس. فالمادة دسمة وكان يجب عليّ كون أنها أول مرة أقرأ هذا النوع من الكتب أن أعيد قراءة الصفحة مرتين أو ثلاث في بعض الأحيان. وكنت كثيرا ما أتوقف وأربط بين المفاهيم باللغة العربية ومرادفاتها بالإنجليزية.
أسلوب المؤلف رائع جدا، فقد كان رحمه الله يتقن فن الكتابة كما لاحظت من خلال الكتاب. والكتاب وإن كان قديما ينتمي لعصر السبعينات إلا أن المادة المعروضة فيه هامة للقراءة والتدبر وذلك لأن نظريات علم الاجتماع تراكمية بقدر ما هي وصفية وكمية. ويمكن للقارئ المحب للهدوء أن يلتمس في الكتاب كثيرا من الهدوء الذي يصاحب فترة نهاية السبعينات بعد أن انتهت الحروب المباشرة فيه فكان الكتاب يأخذني بعيدا عن صخب الجدال الحالي في زماننا.
لن أتمكن كثيرا من نقد الكتابة نقدا أدبيا وعلميا كون أنني أتلمس طريقي في قراءة علم الاجتماع لكني كونت فكرة لا بأس بها عن الكاتب رحمه الله. فقد انتقد بشدة النظرية البنائية الوظيفية وربطها بالإمبريالية (لاحظ المصطلحات السبعينية) وكان يميل بشدة إلى الفكر الماركسي الذي ربطه بالثورة.
ويمكن هنا أن نلاحظ أمرا هام وهو أن البنائية الوظيفية كانت نظرية محافظة هدفها المحافظة على وجود الظاهرات الاجتماعية كما هي وبالتالي المحافظة على النظم السياسية القائمة مما يعد تكريسا للسلطة ودفع أي محاولة لتغييرها. وهذا هو سبب تعلق السوسيولوجيين الغربيين بها ودفاعهم المستميت عنها كون أنها جاءت لتحافظ على النظام الرأسمالي الغربي في مواجهة النظام الاشتراكي الشرقي في تلك الآونة.
كانت لدى الكاتب نزعة شديدة لتبني الفكر الماركسي الثوري كون أن فترة السبعينات كانت فيها القوة الشيوعية في أوجها ولها تأثير كبير. وهذا ما كان يجعل الكاتب مؤمنا بحتمية تغيير المجتمع واعتبار التغيير جزء من منظومة الثبات المجتمعي وهو ما كانت تنادي به الماركسية. فقد آمن ماركس بالتغيير بل والتغيير العنيف في بعض الأحيان، واعتبر التغيير ضروريا (للمحافظة) على المجتمع.
الكتاب يشرح ويسهب بطريقة وصفية مترابطة ومتسقة النظريات الاجتماعية. وهذا الشيء الذي يجعل القارئ مهما كانت اللغة عسيرة الفهم أن يتابع القراءة.
أكثر ما أعجبني في الكتاب هو نقطتين شديدتي الأهمية بالنسبة لي وهما:
1- نقده الحاد للإمبريقيين وتفضيل المنهج الوصفي: وهذا ما أتفق معه تماما حيث أن الإمبريقيين أهملوا النظرية واهتموا بالإحصائيات والبيانات الجافة على حساب النظرية. حتى وإن اهتموا بالنظرية واعتبروا أن الوضعية أو الوضعية الجديدة هي نظرية محل اعتبار وهذا ما لا يمكن انكاره، لكن ما أستنكره وبشدة هو كيف يمكن لنا أن نحكم على مجتمع ما من خلال عينة تمثل ربما واحد من عشرة آلاف منه. فكرة التعميم الذي تميل إليه النظرية الوضعية هي مشكلة من وجهة نظري إذ تقولب المجتمع فتسهل الحكم عليه من خلال قوالب جاهزة تريح الباحث الكسول. أما المنهج الوصفي فهو منهج يقوم على تحليل المجتمع بشكل دقيق، ويتجاوز مجرد تقديم المعلومات عن المجتمع إلى محاولة فهم أسباب “الظواهر” و”المظاهر” الإنسانية وتقديم تلك الأسباب بإسهاب يعتبر هو عماد الإقناع وليس الأرقام.
2- طريقة الإقناع: فالكاتب كان حاذقا في الإقناع النظري ويمتلك حصيلة علمية هائلة أتاحت له إقناع القارئ بوجهات نظره بطريقة متسلسلة قلما تجد فيها خللا. وهذا ينبع من إيمانه بالمنهج الوصفي التحليلي الذي لا تقوم له قائمة دون تقديم تفسيرات متراكبة متسقة مقنعة وقابلة للاختبار والاختيار. ثم إنه كان أمينا حريصا على الأمانة العلمية بإخلاص فحين انتقد الغربيين أبرز ملامح قوتهم وإسهاماتهم بشكل ناقد، وحين امتدح ابن خلدون أيضا امتدحه بشكل ناقد بل وانتقده في اجتهاده للحفاظ على السلطة. واضح أن الكاتب كان ثوريا يمقت كل أشكال التسلط.
ما لم يعجبني في الكتاب هي نقطة واحدة. الكاتب أسهب وشرح في ثلاثة أرباع الكتاب الاولى ، لكنه حين جاء للحديث عن علم الاجتماع في الوطن العربي، جاء الكلام مبتورا ولم يكن بالعمق ذاته الذي ميز جل الكتاب. وبالأخص كان الأمر ما يشبه (السلق) في الجزئية الأخيرة من الكتاب والتي أراد فيها طرح حلا لمشكلة علم الاجتماع في الوطن العربي فجاء الطرح فقيرا مبتورا لم يتجاوز الصفحات الأربع من وجهة نظري. وربما يعزى ذلك لفقر علم الاجتماع في ذلك الحين أو ربما لأنه شعر بالملل في آخر الكتاب 🙂 وهذه عادة سيئة تصيب الكثير من الكتاب 🙂
أخيرا: الكتاب كان رائعا وأعتبره مدخلا جيدا لمن يريد القراءة في علم الاجتماع
وحتى نلتقي،،،
ملاحظة هامة: إذا شعرت أن هذه المقالة مفيدة، فتذكر أن الذي كتبها بذل جهدا كبيرا في كتابتها. يمكنك أن تشكره بأن تعيد نشر المقالة عبر صفحتك في فيسبوك أو تويتر كي يستفيد غيرك كما استفدت أنت. شكرا لكم 🙂
هذه المقالة تمت قراءتها 4663 مرة ______________ لا تنسى بعد قراءتك للمقال أن تقوم بتقييمه بواسطة النجوم لو سمحت 🙂
صحيح. الكتب الدسمة تحتاج للقراءة أكثر من مرة 🙂
قد بدا لك أن الكتاب كان دسما ويحتاج لقراءة صفحاته أكثر من مرة , وهذا رأيي أيضا في تقييمك له 🙂